تقدم منصة العدالة الاجتماعية تقريرًا بعنوان ”المدارس والتفاوت الطبقي: من ينفق على التعليم في مصر؟“ ويناقش التقرير عبء الإنفاق على التعليم، متسائلًا عن أي فئات الأسر، بمختلف خلفياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تقدر على شراء خدمات التعليم؟ ويتساءل كذلك عن الدور الفعلي للحكومة فيما يتعلق بخدمات التعليم في ظل سياسات ”تحرير قطاع التعليم“ وما إذا كان هذا الدور شاملًا الإنفاق على أبسط ركائز العملية التعليمية، كتوفير الأراضي، والمبنى المدرسي، خصوصًا في ظل ارتفاع أسعار البناء والتشييد. كيف تطور دور الدولة، القائمة على بناء وإدارة المدارس العامة التي تغطي أنحاء الجمهورية، في ظل سياسة تحرير التعليم؟ وإذا لم تكن الحكومة قائمة على هذه الأدوار، فمن ينفق على التعليم إذن؟
يأتي هذا التقرير في ظل الحديث الدائر حاليًا عن خطوات تطوير التعليم، والتي تعتمد على خطة التنمية المستدامة المعروفة برؤية 2030. وفي سياق هذه الرؤية طرحت وزارة التربية والتعليم نظامًا جديدًا يختلف جوهريًا عن النظام الحالي الذي اتسم بفشله على مستوى الجودة، بداية من المناهج الدراسية وحتى طرق التقييم وأساليب التدريس. اعتمد وزير التربية والتعليم في شرحه للنظام الجديد على المواد الدستورية الخاصة بالتعليم قبل الجامعي، وأوضح أن الهدف من النظام الجديد هو ”إعادة بناء الإنسان المصري وخلق أجيال قادرة على التنافس، تستطيع أن تزيد إنتاجية الدولة المصرية، وتمحي عجز الموازنة وتحقق فائضًا، وتبدأ بنقل الاقتصاد إلى اقتصاد المعرفة.“
ليس بين المصريين من يعترض على أولوية تطوير التعليم، ولكن يمكن الاعتراض على وضع خطة تتجاهل الأسباب الأساسية التي أدت إلى فشل المنظومة التعليمية، ومن بينها ارتفاع الكثافات الطلابية، وتردي أجور المعلمين، وانخفاض أعدادهم ونسبهم بالقياس للطلاب، وتدني مستوى المناهج الدراسية. وعندما نتحدث عن الجودة والمعايير العالمية، علينا أن نعي تلك المحاور ونعمل على تحسينها بصورة شاملة ومترابطة. إن تطوير أساليب وأدوات وطرق التدريس هو أساسي بالتأكيد، ولكن تطويرها بصورة مجردة، ودون تحسين باقي العوامل الضرورية في العملية التعليمية، سينتهي بالضرورة إلى الفشل.
يطرح التقرير السؤال الأهم لتطوير التعليم، وهو سؤال عملية الإنفاق على القطاع، فعندما اعتمد وزير التعليم في شرحه للنظام على المواد الدستورية، تجاهل وهمش التزامات الدولة في تخصيص ٤٪ من الناتج المحلي للإنفاق على التعليم قبل الجامعي، والارتفاع بالنسبة لتصل إلى المعايير العالمية، ومراعاة الأوضاع المالية والأدبية للمعلمين. وحتى الآن، لم تلتزم الدولة بالاستحقاقات الدستورية بشكل مباشر، بل تحايلت عليها بدمج بنود من قطاعات أخرى إلى نسب الإنفاق للارتفاع بها، ولم ترفع أجور المعلمين لتضمن لهم حياة كريمة ومكانة أدبية مرتفعة، في ذات الوقت التي ترفع فيه أجور الوزراء والمحافظين ونوابهم ومسؤولين آخرين بموجب قانون من البرلمان.
يتطرق التقرير أيضًا إلى التعليم الخاص بنوعيه، مدارس اللغات والمدارس الدولية، والذي لن يؤثر فيه النظام الجديد، بل علي العكس، سيظل محتفظًا بمميزاته من جودة وضمان لإتقان اللغات الأجنبية في بداية المراحل الأولى من التعليم قبل الابتدائي والابتدائي. ولكن ما هي الفئات التي تتمتع بالرأسمال المادي والثقافي لدعم ذويهم وإلحاقهم بنظم تعليمية تضمن لهم رفع مستوياتهم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية؟ مع إلغاء تعليم اللغات في المدارس الرسمية (التجريبية سابقًا)، والتي كانت سبيلًا لاستثمار شريحة اجتماعية معينة في تعليم ذويهم وضمان ثباتهم على وضعهم واحتفاظهم بمميزات اجتماعية وثقافية، يوجد قلق كبير من خسارة تلك المميزات التي طالما كانت أساسية لتلك الفئة. ويزيد الأمر سوءًا أن تجرب الدولة نظامًا تعليميًا جديدًا على فئات أخرى لا تملك أي خيار سوى إلحاق أطفالها بالتعليم الحكومي العام، نظرًا لخلفياتهم الاقتصادية والاجتماعية، وهم المهمشين أو غير القادرين على تحمل تكاليف المدارس الرسمية للغات أو الخاصة والدولية، فتحولوا إلى حقل تجارب لنموذج ليس له أسس واضحة يمكن البناء عليها فيما بعد، ولم يتطرق إلى المشاكل المستعصية في العملية التعليمية. وعلى صعيد آخر، تستطيع الفئات الأغنى والأعلى شأنًا تجنب تلك الخطوة، نظرًا للمساحات المفتوحة أمامهم، والتي توفر لهم اختيارات متعددة في سوق التعليم، بعيدين كل البعد عن كل أنواع التجارب.
أخيرًا، يعتبر انكماش التعليم الحكومي ذي الميزانية الضئيلة والخدمة الرديئة بالنسبة للتعليم الخاص معضلة أساسية ومحركًا لإعادة إنتاج التفاوت الطبقي والتوسع فيه، لذا علينا أن ننظر إلى النتائج بعيدة المدى للعملية التعليمية، وهي خلق قوة العمل والفرص الوظيفية في السوق، بالتوازي مع خلق المواطن والفرد في المجتمع المصري. على وزارة التربية والتعليم اعتبار هذه النتائج البعيدة محاور أساسية في جهودها للتطوير، إذ أن المعطيات التي يحللها التقرير تشير إلى انحدار وتقلص الإمكانيات التنافسية لخريجي التعليم الحكومي أمام خريجي التعليم الخاص. ويتفاقم هذا الانحدار بفعل توريث رأس المال، التابع للأبعاد الثقافية والمهنية للآباء، والذي يستفيد منه القادرون ثقافيًا وماديًا فقط.
تحقيق العدالة في مجال التعليم هو أولى الخطوات لتحقيق العدالة الاجتماعية بين كافة أطراف الشعب، وعلى التعليم أن يكون قوة لتحقيق المساواة وإتاحة الفرص بين المواطنين، وهو ما سيحدث فقط عندما يصبح التعليم أولوية على الأجندة السياسية للحكومات، وتنعكس هذه الأولوية على الخطط المالية والاقتصادية للدولة. ويتحقق ذلك من خلال رصد التحولات التي حدثت في قطاع التعليم بطول فترات اجتماعية واقتصادية مختلفة، وتحليل دور الدولة والقطاع الخاص في إنجاز تلك التحولات، وتقييم الاستراتيجيات والمشروعات السابقة التي أدت في النهاية إلى انهيار منظومة التعليم المصري، ومحاولة معالجتها، لا تجاهلها، حتى لا يكون التعليم آلية لتغييب المساواة وتوسيع الفجوات بين المواطنين.
للاطلاع على التقرير من هنا : المدارس والتفاوت الطبقي: من ينفق على التعليم في مصر؟
ولقراءة الاصدار