أسفر وباء Covid-19 عن أسوأ أزمة عرفها البشر منذ الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، علينا إدراك أنه مازال هناك المزيد بانتظارنا. ففى جميع أنحاء العالم، ستعقب الجائحة أزمات في عالم الإنتاج والمجتمع أيضًا. وستكون هناك تهديدات على العمل والنقابات العمالية، التي ستعتمد على ردود فعل الأطراف المؤثرة في القطاعات الإنتاجية. وستحدد النقابات في المقام الأول ما إذا كان المنعطف المقبل نحو الأسوأ أم الأفضل.
وتعادل تكلفة كل شهر من الحظر 2٪ إلى 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وبالتالي، يقدر أن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي في الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية سيكون 6 ٪ في المتوسط، بينما تواجه دول أوروبا وأمريكا الشمالية وضعًا مأساويًا بشكل خاص (OECD، 2020). حتى أن بلدانًا مثل المكسيك أو البرازيل، كان النشاط الحكومي فيها محدودًا نوعًا ما، قد تواجه انكماشًا يتعدى نسبة 10%. كما سيصاحب الانكماش خسارة في الوظائف متناسبة مع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي.
و بحلول نهاية يونيو، تقدر منظمة العمل الدولية خسارة 7٪ من الوظائف على مستوى العالم (195 مليون وظيفة) (ILO, 2020). وتأتي توقعات الأمم المتحدة أكثر تشاؤما؛ فوفقًا لها ستصيب عواقب الأزمة حاليًا أربعًا من كل خمس وظائف، أو ستصيبها في نهاية المطاف.
ولن تقتصر تركة فيروس Covid-19 على خسارة فرص العمل، فوسط العاصفة الاجتماعية أثناء الوباء، ستشمل التركة أيضًا تخفيضًا لساعات العمل، وإستبعادًا لأجور، وإخلالًا باتفاقيات للمفاوضة الجماعية. ويجدر بنا التشديد على أن التكفلة الإنسانية والإنتاجية للجائحة ستؤثر على العمال وأسرهم أكثر من غيرهم، ولا سيما المنتمون منهم للقطاعات الأضعف.
الانتقال من عالم الماديات إلى عالم الفيروسات
حتى الآن، كان عالم العمل قائمًا على مجموعة من الأشياء المادية: مصانع، وآلات، وبنية تحتية، وتجهيزات، وشبكات متنوعة، وأنظمة نقل، ومحطات، وجدران وأسقف، وقضبان وسلاسل وأدوات، وأجهزة، وطلاء وألوان من كافة الأنواع. وينطبق نفس الشيء على دنيا الحكومة والتعليم: عالم من المباني والخرسانة والأسمنت والفصول الدراسية والمكاتب والسبورات والمقاعد والأقلام. ورغم هذا، استندت هذه الماديات على بنى اجتماعية وبنى للسلطة، وعلى حدود وأقاليم عينتها البلدان، و تقاربات وديناميكيات محددة على مستوى الشعب والطبقة الاجتماعية. وكان هذا الوضع إشكاليًا دائما، لأنه مزج أفكار الشعب والدولة مع الهويات القائمة على المكانة والجماليات والثروة والوجاهة الاجتماعية. وتوفرت دعامته النهائية من خلال نظام قيمي خاص بأساليب لوضع المعايير، من أجل تحديد ما هو “جيد” (وقيـّم) وما هو “سيئ” (وتافه). وهذا العالم لن يعود مرة أخرى.
ويجوز أن يغير فيروس Covid-19 إمكانيات التنقل عالميًا، ويبدل علاقاتنا المكانية والإقليمية، التي تكمن وراء هذه الماديات. ومن الممكن بقاء الفيروس للأبد؛ وسيصبح حينئذ نوعًا آخرًا من السرطان، لا نملك لقاح ضده. وحتى ننتج في نهاية المطاف الأجسام المضادة، أو نطور العناصر الطبية للسيطرة على الفيروس عند نقطة غير معلومة في المستقبل، لن نكون قادرين على استعادة المسافات وإمكانيات التنقل التي اعتدنا عليها. ويعني هذا ضمنًا أن قاعدة “التباعد الصحي” التي تعلمناها في الأشهر الأخيرة ستستقر بيننا كضيف أبدي.
ولا تعد هذه الرؤية من قبيل المبالغة، لأنه حتى لو أمكنت السيطرة على فيروس SarsCov-2 على المدى القصير، فقد يتبعه فيروس آخر، قد كانت نتائجه أسوأ، مثل أن تظهر طفرة على الفيروس الحالي، أو يظهر فيروس آخر بخصائص غير معروفة لنا حتى الآن، ولا يمكن السيطرة عليه.
وهناك حقيقة مهمة يجب استيعابها، أن فيروس Covid-19 ثمرة تعبير متطرف عن عالم يرتكز على المادية. وصلنا له– أو اخذنا إليه – بتوجيه رجال الأعمال الذين لا تتجاوز اهتماماتهم الدخل و الربح. ومنذ حوالي 44 عامًا، دعانا أولريش بيك (1992) للانتباه إلى قدوم “مجتمع المخاطرة”، وهو حالة من التطور ناتجة عن نظام يوجهه استخدام التكنولوجيا المتطورة أكثر من أي وقت مضى، واستغلال غير رشيد للموارد الطبيعية من أجل غرض وحيد، هو الحصول على المزيد من الأرباح الفردية. إنها حالة مشحونة بالمخاطر والحيرة، حيث أدى البحث عن ربح غير محدود إلى أن تصبح إدارة المتغيرات الأكثر حساسية للحياة الاجتماعية والإنتاجية والطبيعية، محاطة باللاعقلانية والغموض والحيرة. هذه الحلقة من التاريخ شديدة الخطورة، حتى أن بقاء الجنس البشري نفسه معرضًا للخطر.
ونستدل بوضوح على صحة قول أولريش بيك، من الجائحة التي أسفرت عن وفاة أكثر من نصف مليون في جميع أنحاء العالم، ومن وجود الولايات المتحدة، القوة الرائدة للعالم، في مركز تفشي المرض. لقد استتب الوضع لمجتمع المخاطرة بيننا، حيث يصبح اللاعقلاني طبيعيًا، وينظر إلى الخطر بوصفه حالة طبيعية جديدة، بينما تتأرجح حياتنا جميعًا على المحك.
الثورة الرقمية
وهناك ضيوف آخرون جاءوا ليبقوا ويغيروا حياتنا إلى الأبد. إنها الآلات القادرة على التعلم، والسيارات بدون سائق، وأجهزة الاستشعارعن بعد، التي تضع البيانات وتتخذ القرارات، بافتراض تفوق ذكاءها (الاصطناعي) على ذكاء البشر. وتأتي في هذا السياق السحب التي تخزن تريليونات الكيلو بايت من البيانات على أقل من سنتيمتر مربع واحد بحساب المساحة المادية؛ وأجهزة الاتصالات الذكية ميسورة التكلفة، المتوفرة بالفعل في أيدي نسبة كبيرة من الناس؛ وشركات النقل والخدمات اللوجستية التي تنقل ملايين الأشخاص والسلع والخدمات يوميًا، دون إنتاج سيارة واحدة، أو إنشاء علاقة عمل واحدة، بينما تتجاوز قيمتها السوقية ما حققته غالبية شركات تصنيع السيارات من قيمة على مدار أكثر من مائة عام ؛ ومنصات الانترنت القادرة على تتبع تحركاتنا وإعجاباتنا وتفضيلاتنا من أجل التنبؤ بسلوكنا، وبيع بياناتنا دون دفع أي مقابل، مهددة لحياتنا الخاصة.
التقنيات الرقمية ليست جديدة (WEF،2019) )، لكن الجائحة جعلت منها الرابح الوحيد في اقتصاد يعاني من الركود عمومًا. ولذلك تتزايد قيمة شركات “التكنولوجيا الفائقة” مثل جوجول وأمازون وفيسبوك وأوبر. وبفضل الأشكال المتعددة للعمل عن بعد، التي تروج لها هذه الشركات (مثل زووم وسكيب ووتس أب)، تمكنت المدارس والحكومات وملايين أماكن العمل من الاستمرار في العمل. وستكون رقمنة الحياة اليومية التي تشجعها الجائحة، بمثابة الضربة الأخيرة لعالم الماديات الذي عشناه حتى الآن، فقد أوضحت الجائحة بجلاء أن العمل لا ينحصر داخل جدران مبان بعينها.
ومع ذلك، كانت سيادة الرقمنة متوقعة بالفعل في المستقبل القريب، حيث ستحل الروبوتات محل وظائف صناعية كثيرة (ربما من ثلث حتى ثلثي هذه الوظائف)، وخاصة التي لها معايير موحدة، والمتسمة بالتكرار، والمألوفة، والميكانيكية – أي الأنشطة التي تؤديها القطاعات الأضعف والأقل تأهيلًا، وتقوم بها العمالة الرخيصة، والتي تسلمتها البلدان الفقيرة والناشئة من البلدان المتقدمة، كما هو الحال في المكسيك (انظر، على سبيل المثال، Ekkehard et al، 2019.)
ونتيجة لذلك، قد نشهد “وضع طبيعي جديد” من تسارع خسارة فرص العمل بمقدار الثلث: أولاً، خسارة ملايين الوظائف بسبب المرض ؛ ثانياً، استبدال ملايين الوظائف بالروبوتات. وثالثاً، العمل عن بعد، والانتقال للعمل من منازلنا، بينما ستغلق أو تزال المرافق التي طالما اعتبارنا وجودها أمرًا مسلمًا. وربما ارتبط الشكل الرابع من البطالة بالعاملين في الوظائف التيسيرية (مثل الإشراف، والأعمال اللوجستية، والصيانة، وتقديم الخدمات العامة، وما إلى ذلك)، التي تعتمد على وجود تلك الأشياء المادية.
التحديات والمخاطر التي تواجه النقابات العمالية
وتتمثل فيما سلف المخاطر والتهديدات التي سيواجهها العمل المنظم. لذلك حان الوقت للعمل باستخدام الأدوات التي يكفلها القانون والمنطق والحوار الاجتماعي. وقد كانت المبادئ التي تكفلها المعايير الدولية ومنظمة العمل الدولية، تتراكم وتدون عبر أكثر من قرن، وتقدم لنا الآن طريقاً آمناً للتغلب على الكوارث والتهديدات من خلال:
تعزيز الانتعاش الاقتصادي من أجل التوظيف وفرص العمل اللائقة، وإعادة الإندماج الاجتماعي والاقتصادي.
تعزيز التوظيف المستدام والعمل اللائق، والحماية الاجتماعية وعدم الاستبعاد اجتماعيًا، والتنمية المستدامة، وتأسيس مشاريع مستدامة، وخاصة المشاريع الصغيرة ومتوسطة الحجم، والانتقال من الاقتصاد غير الرسمي إلى الاقتصاد الرسمي، والتحول الذي ينال الجميع ثماره بالتساوي نحو اقتصاد مستدام بيئياً، ومنافذ متاحة للخدمات العامة.
حساب تقديرات حول أثر برامج الانعاش الوطنية على التوظيف.
تعزيز الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية.
واستهداف:
تأمين دخل مضمون، لا سيما للأشخاص الذين فقدوا عملهم أو مصدر رزقهم بعد الأزمة؛ وإقرار أنظمة الضمان الاجتماعي الشاملة أو إعادة إنشاءها أو توسيعها، إلى جانب غيرها من آليات الحماية الاجتماعية.
تشجيع المنهج الذي يركز بشكل أساسي على الناس والصحة والعمل.
العمل على أساس ” التوصية الخاصة بالتوظيف والعمل اللائق من أجل السلام والقدرة على الصمود”، (رقم 205)، التي أقرت في 2017.
أليكس كوفاروبياس (Alex Covarrubias V)
El Colegio de Sonora أستاذ في
ومنسق شبكة الابتكار والعمل على تحويل الصناعة المكسيكية للنظام الأتوماتيكي.
المراجع
– Beck, U. (1992) Risk Society: Towards a New Modernity. New Delhi: Sage
. Ekkehard, E., Merola, R. and Samaan, D (2019). ‘The economics of artificial intelligence: Implications for the future of work’, Future of work research paper 5. Geneva: International Labour Office.
– ILO (2020) Covid-19 and the world of work, International Labour Organisation: https://www.ilo.org/global/topics/coronavirus/lang– en/index.htm. Accessed 29 June 2020.
– OECD (2020) ‘Confronting coronavirus (Covid-19): contributing to a global effort’. Organisation for Economic Cooperation and Development. Available at http://oecd.org/coronavirus/en/. Accessed 29 July 2020.
– WEF (2019) ‘Shaping the Future of Digital economy and New Value Creation. Platforms’. World Economic Forum: https://www.weforum.org/platforms/shaping-thefuture-of-digital-economy-and-new-value-creation. Accessed 29 July 2020.