في ظل أزمة انتشار ڤيروس كورونا الجديد، فعَّلت الحكومة المصرية حزمة كبيرة من الإعانات لدعم قطاعات الاقتصاد بما فيها البورصة، وأصدرت قرارات بتخفيض سعر الطاقة والضرائب على أرباح البورصة وتأجيل تسديد أقساط المديونيات، كما رصدت جزءًا من هذه الإعانات لدعم القطاع الصحي، بالإضافة إلى جزء ضئيل للعمالة غير المنتظمة.
وعلى الرغم من الدعم الذي قدمته الحكومة للشركات، فقد رأينا الكثير من العمال والموظفين ينشرون خطابات الاستغناء عنهم من الشركات التي يعملون بها، من دون أي مستحقات ينص عليها القانون، وقد رأينا هذا يحدث لمن هم في مراكز عمل مرموقة، من حيث مؤهلاتهم ومهاراتهم في العمل، فما بالنا بالشركات الأصغر والعمالة الأقل مهارة.
بمرور الوقت بدأنا نسمع عن تسريح بالجملة للعمال، فقد نُشر خبر عن تسريح 80 عاملة من دمياط كانوا يعملون في المنطقة الصناعية ببورسعيد، ولم تُعطى لهم رواتبهم إلا بعد أن وقعوا علي الاستقالة، مما يعني ضياع كل حقوقهم عن سنوات عملهم الماضية. كذلك أعلن رجل الأعمال نجيب ساويرس عن تخفيض أجور عمال إحدى شركاته بنسبة 50%.
وفي الوقت الذي تضمن ألمانيا فيه إعانة بطالة تصل إلى 67% من الدخل السابق على ترك العمل، بحد أقصى يصل إلى 6500 يورو شهريًا، قررت الحكومة البدء بصرف مبلغ 500 جنيه لكل رب أسرة ممن يسجلون كونهم عمالة غير منتظمة. تعدى عدد المسجلين مليون شخص، وتشير إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في النشرة السنوية المجمعة للقوى العاملة لعام 2018، الصادرة في أبريل 2019، إلى أن إجمالي المشتغلين داخل الشركات هو 14.3 مليون عامل، بينما عدد المشتغلين خارج المنشآت هو 11.8 مليون شخص، بخلاف العاطلين عن العمل وعددهم 2.9 مليون شخص.
يعني هذا أن الحكومة ملزمة بأن تدفع في المرة الواحدة للعمالة غير المنتظمة التي تطالبها بالبقاء في المنزل مبلغ 5.9 مليار جنيه. وعلى الحكومة أن تدفع هذا المبلغ من أجل تعويض ضئيل على الأقل شهريًا حتى انتهاء الأزمة، التي لا نعرف إن كان هؤلاء العمال سيجدون عملًا بعده أم لا.
يطلعنا هذا الجزء من المشهد على حجم العبء الواقع على الحكومة — والذي لا يُقارن طبعًا بما يقع على العمال من أعباء — بسبب التساهل مع أصحاب الأعمال، والسماح بالتفريط في حقوق العاملين وأمانهم الوظيفي، بخلاف تدني أجورهم وعدم التأمين عليهم وغير ذلك من الحقوق المهدرة.
مبدئيًا، أعلنت الحكومة عن صرف منحة 500 جنيه للعمالة غير المنتظمة، بشرط التسجيل عبر موقع وزارة القوى العاملة، وأكد الوزير أن كل الأشخاص العاملين في مهن غير مستقرة من دون مرتب ثابت، أو يعملون بأجر يومي يستطيعون التسجيل بملء الاستمارة، ويكون هذا إلكترونيًا فقط.
وفي 11 أبريل أعلن وزير القوى العاملة اقتراب صرف المنحة، وقدرها 500 جنيه بإجمالي 1,500 جنيه عن ثلاثة أشهر، يستفيد منها نحو مليون و400 ألف مستحق. وأعلن الوزير أن إجمالى الذين سجلوا على الاستمارة المخصصة للعمالة غير المنتظمة بالموقع الإلكترونى لوزارة القوى العاملة وصل عددهم إلى مليون و900 ألف، وبعد تدقيق الاستمارات استُبعد نحو 500 ألف من غير المستحقين، طبقًا لمعايير استحقاق المنحة.
وقد أوضح خالد عبد العزيز شعبان، عضو لجنة القوى العاملة بالبرلمان، معايير استحقاق المنحة، وقال إن الفيصل فيها هو فرز العاملين ممن فقدوا وظائفهم على خلفية تفشي فيروس كورونا، من العاطلين أصلًا، أي من لا دخل للأزمة الحالية في بطالتهم. ومن ضمن معايير إثبات علاقة العمل السابقة، هو إثبات الاشتراك في شهادة أمان المصريين، وإثبات الاشتراك في التأمينات، وهو ما أصبح متاحًا للعمالة غير المنتظمة وفقًا لقانون التأمينات الجديد، فضلًا عن إثبات المهنة في بطاقة الرقم القومي.
لكن أحدًا لم يخبرنا بشأن ملايين الباعة الجائلين، في الشوارع وفي الأسواق التي أغلقتها السلطات، وخدم المنازل، وغيرهم الكثير والكثير من المهن التي توقفت ولا تنطبق عليها شروط وزارة القوى العاملة، كيف سيكون حالهم؟ هذا التضييق في المعايير والتوسع في الاستبعاد من أجل مبلغ ضئيل، يتناقض مع ما يحدث في الدول الأخرى التي لم نسمع فيها عن إجراءات استبعاد مماثلة، مع أن حكومة الولايات المتحدة مثلًا تلقت أكثر من 15 مليون طلب لإعانة البطالة في ثلاثة أسابيع.
هل تكفي 500 جنيه لإعاشة أسرة، وتغنيها عن المجازفة بنزول عائلها طلبًا للعمل حتى لو تعرض وأسرته لخطر العدوى؟ في أهم مؤشرات بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك عن الفترة بين 1 أكتوبر 2017 و30 سبتمبر 2018، كان متوسط الاستهلاك السنوي الفعلي للأسرة على مستوى الجمهورية يبلغ 52,645.7 جنيه، مما يعني أن متوسط الإنفاق الفعلي للأسرة في الشهر هو 4,387.1 جنيه. وجاء في بحث الدخل والإنفاق كذلك أن الأسرة المكونة من خمسة أفراد تحتاج إلي 3,678 جنيه شهريًا لتفي باحتياجاتها الأساسية، مما يعني أن الإعانة المقدمة من الحكومة هي سُبع ما تحتاجه الأسرة لكي تعيش.
أبرزت الأزمة الحالية مدى هشاشة علاقات العمل في مصر، فربما لا نستطيع الآن معرفة مقدار تأثير الفيروس في حالات الفصل من العمل، أو تأثيره في زيادة معدلات البطالة، لكن دعونا ننظر لما لدينا فعلًا من إحصائيات لنرى مصير ملايين الأسر بدون عمل وبدون دخل في ظل الحظر الذي لا نعرف إلى متى سيستمر.
في النشرة السنوية المجمعة للقوى العاملة لعام 2018، كان إجمالي قوة العمل 28.9 مليون نسمة، يعمل منهم فعلًا 26 مليون، و2.9 مليون آخرون عاطلون عن العمل. يعمل 5.4 مليون في قطاعي الزراعة والصيد خارج المنشآت، فيما يعمل نحو 210,000 داخلها، ويعمل في الصناعات التحويلية 3 مليون داخل المنشآت، ونحو 210,000 خارجها، فيما يعمل في مجال التشييد والبناء 409,000 داخل المنشآت، و2.9 مليون خارج المنشآت.
ويعمل بالقطاع الحكومي 5.3 مليون موظف، وفي قطاع الأعمال العام قرابة 754,000 مشتغل، وأخيرًا 26 مليون مشتغل بالقطاع الخاص والاستثماري. إجمالًا، يصل عدد المشتغلين داخل المنشآت إلى 14.3 مليون، وإجمالي من يعملون خارجها إلى 11.8 مليون مشتغل. وعمومًا يتمتع العاملون في القطاع الحكومي، على عكس القطاع الخاص، بأمان وظيفي وتأمين أفضل.
في القطاع الخاص، يعمل 8 مليون داخل المنشآت، و11.8 مليون خارجها. وتشير مؤشرات جودة العمل (الجدول رقم ح من التقرير) إلى أن العاملين بصورة دائمة عددهم 7 مليون داخل المنشآت و7 مليون خارجها، أما العاملين بصورة مؤقتة داخل المنشآت فعددهم 642 ألفًا، وخارج المنشآت 245 ألفًا، ويعمل موسميًا داخل المنشآت 18 ألفًا، وخارجها 69 ألفًا، وأخيرًا يعمل بصورة متقطعة خارج المنشآت 4.3 مليون مشتغل، وعددهم داخلها 309 آلاف. وتصل نسبة العاملين بعقود قانونية داخل منشآت القطاع الخاص إلى 33.1%، وخارج هذه المنشآت 2.7%، ونسبة المؤمن عليهم داخل المنشآت 33.6%، وخارجها 9.6% فقط.
بإجراء حساب بسيط على هذه الأرقام سنجد أن 2.9 ملايين فقط ممن يعملون داخل المنشآت، و1.1 ملايين ممن يعملون خارجها، لديهم تأمين اجتماعي ومن ثمَّ صحي. يعني هذا أن 15.8 ملايين من العاملين بالقطاع الخاص يعيشون من دون تأمين اجتماعي، وهو ما يعني إفقارهم وإفقار أسرهم، وزيادة الأعباء على ميزانية الدولة إذا حاولت أن تغطيهم بأي برامج ضمان اجتماعي أخرى.
يحب ألا يفوتنا إذن أن نرى في وضع الوباء الحالي فرصة لإصلاح ميزان علاقات العمل في مصر، وهو ميزان يميل بشدة لصالح أصحاب الأعمال على حساب العاملين والميزانية العامة معًا. وإذا كنا نطمح لرؤية أي اعتدال في هذا الميزان، فثمة إجراءات عاجلة يجب اللجوء إليها لاحتواء الآثار الاجتماعية جنبًا إلى جنب مع احتواء تفشي الڤيروس، ومن بين هذه الاجراءات العاجلة:
- توجيه حزم الدعم لصرف أجور العاملين التي توقفت شركاتهم، عن طريق القوى العاملة، بدلًا من إعطاء هذه الإعانات للشركات التي تفصل العمال وتسلب حقوقهم، وذلك للإبقاء عليهم في عملهم حتى انتهاء الأزمة.
- زيادة الإعانة المقدمة للعمالة غير المنتظمة من دون استبعاد تحت أي مسمى، وخصوصًا للنساء، على أن تكون قيمة شهرية ثابتة حتى انتهاء الأزمة.
- تقديم الدعم للمزارعين ليتمكنوا من الاستمرار في الإنتاج الذي يعد حيويًا في ظل الأزمة، مع توجيه جزء منه لوسائل الوقاية من العدوى.
- تحديد الصناعات التي لا بد أن تستمر مع تفشي الوباء، كصناعات الغذاء والدواء وأجهزة الوقاية، وإصدار قرارات بتوقف باقي الصناعات مع دفع أجور عمالتها من قبل الحكومة حتى تنتهي الأزمة، بما فيها قطاع البناء وأي قطاعات غير أساسية في الأسابيع القادمة.
- زيادة مخصصات بطاقات التموين لتوفير البقوليات والحبوب والزيوت والسكر بكميات كافية للأسر حتى انتهاء الأزمة.
- العمل على إصدار تشريع يجرم فصل العمالة من قبل الشركات.
وبالإضافة لهذه الإجراءات العاجلة لمواجهة الأزمة، نرى أن الوضع الحالي فرصة للبدء بسياسات تحقق التوازن في علاقات العمل، وتؤمن حياة كريمة للأسر المصرية، ومن بين هذه السياسات:
- تعديل قانوني العمل والتأمينات لإلزام الشركات بتثبيت العاملين والتأمين عليهم بحسب أجورهم الحقيقية، مع جزاءات رادعة للمخالفين.
- إصدار قانون بحد أدنى للأجور يشمل كل العاملين، وكذلك حد أدنى للمعاشات لا يقل بأي حال عن 3,500 جنيه شهريًا، وهو أقل مما جاء في تقرير الدخل والإنفاق عما يكفي الأسرة للعيش شهريًا عام 2018.
- إلغاء ما يسمى بشركات توريد العمالة، والعمل على تثبيت العمال في الشركات التي يعملون لديها فعلًا.
- وضع خطة اقتصادية تعمل على إنشاء مشروعات تستوعب العمالة غير المنتظمة في إطارها، بشروط العمل اللائق.
- فتح المجال وتشجيع العاملين لحسابهم الخاص للدخول في أشكال تعاونية، مما يحول جزء كبير من الاقتصاد غير الرسمي لاقتصاد رسمي، ويضمن حقوق العاملين به.