كرونا

العمال وعيدهم في زمن الكورونا

شارك:

أتى عيد العمال هذا العام بينما كانت مصر تبدأ المنحنى الصاعد عدد الإصابات والمتوفين جراء فيروس كوفيد-19 المعروف باسم فيروس كورونا الجديد. وأتى العيد كذلك وسط الأخبار عن انتشار المرض في العديد من مواقع العمل التي يصر أصحابها على استمرار تشغيلها، ويضغطون على النظام كي يستمر العمل، سواء كانت هذه المواقع تعمل في أنشطة ضرورية لاستمرار الحياة في زمن الحظر أم لا، فإذا بعمال يُفصلون من أعمالهم، وآخرين يُحرمون من أجورهم، سواء كلها أو جزء منها.

في وسط كل ذلك تعلن مديريات القوى العاملة بالمحافظات استئناف عملها في إصدار تراخيص عمل اﻷجانب، وشهادات كعب العمل، وشهادات العمالة غير المنتظمة، دون غيرها من باقي الخدمات، وذلك وفق بيان لوزارة القوى العاملة، لم يوضح موعد تنفيذ هذه الإجراءات.

الغريب في الأمر هو قرار وزارة القوى العاملة بإيقاف دورها الأهم في هذه الأزمة، وهو التفتيش على مواقع العمل، سواء للنظر في مدى تطبيق شروط العمل من التزام بالأجور والتأمينات على العمال وساعات العمل وغيرها، أو للنظر في مدى تطبيق اشتراطات السلامة والصحة المهنية للعمال في ظل انتشار الوباء. فمن سيتأكد من التزام الشركات التي تستمر في العمل بالشروط الهادفة للحد من انتشار الوباء؟ يوضح إعلان القوى العاملة كذلك أنها لن تتلقى شكاوى العمال المفصولين من أعمالهم أو الذين توقفت أجورهم أو انتُقصت، أو الذين يعانون من بيئة عمل قد تسبب العدوى.

أما بالنسبة للعمالة غير المنتظمة، فقد أغلق باب تسجيلهم من أجل الحصول على الإعانات بالفعل منذ يوم 9 أبريل، وأعلنت وزارة القوى العاملة أنه ما من وسيلة أخرى لإعادة التسجيل بالنسبة إلى هؤلاء الذين لم يتمكنوا من منه.

ما فائدة كعوب العمل إذن في وقت لا عمل فيه؟ يتعرض العمال حاليًا للطرد من أعمالهم، وكان ممكنًا على الأقل مد تراخيص عمل الأجانب الحالية حتى انتهاء الأزمة. لكن وزارة القوي العاملة قررت الاستغناء عن أهم أدوارها، فلماذا لم تغلق مكاتبها بدلًا من الاستمرار في أعمال هامشية لن يؤثر في شئ غيابها عن الحياة في الوقت الحالي؟

العمال والإصابة بالكورونا

تنقسم الإصابات المعلن عنها وسط العمال إلى نوعين، في الأول تعلن إدارات الشركات أو أجهزة الدولة عن الإصابات عبر وسائل الإعلام، مع الإعلان عن الإجراءات المتخذة لمحاصرة العدوى، أما في النوع الثاني فتحاول وسائل الإعلام المستقلة سماع روايات العمال، الذين يكونون خائفين ومترددين عادة. يُضاف إلى هؤلاء طبعًا ما لا نعرفه بسبب مخاوف العمال حتى من الحديث بأسماء مستعارة أحيانًا.

من النوع الأول مثلًا، أعلنت بعض المواقع الصحافية عن اكتشاف المرض في شركتين لتصنيع السيراميك وشركتين للصناعات الغذائية ومتجرين، وفي كل هذه الحالات كانت رواية الإدارة هي المهيمنة.

فقد أعلنت مجموعة ليسيكو مصر لصناعات السيراميك إغلاق مصنعها للأدوات الصحية بمدينة برج العرب بالإسكندرية، بعد تأكيد وزارة الصحة إصابة عاملين هناك بفيروس كورونا، فقررت إغلاق المصنع لأسبوعين، علي أن يقوم باقي عمال المصنع بالعزل الذاتي في بيوتهم حتى انتهاء هذه الفترة. وأكدت المجموعة أنها حريصة على استمرار عملها منذ انتشار الوباء عالميًا، مع التزامها بجميع الممارسات الضرورية للحد من خطر الفيروس، وتشمل هذه الممارسات مراقبين للصحة والسلامة لحماية العمال، وتدريبات على ممارسات الوقاية، وسوائل تعقيم وكشوف للحرارة عند مداخل كل المكاتب والمصانع، والسماح لنسبة 40% من الموظفين الإداريين بالعمل من منازلهم.

أُغلق كذلك مصنع سيراميك بمدينة العاشر من رمضان بعد اكتشاف إصابات بين العمال بالفيروس، ما ترتب عليه عزل 1000 عامل، ثم عاودت الشركة نشاطها بعد سبعة أيام مع منح العمال أصحاب الأمراض المزمنة إجازة مدفوعة الأجر.

كذلك أغلقت مجموعة «بل إيجيبت» (لافاش كيري) مصنعها في مدينة العاشر من رمضان، بعد ثبوت إصابة 12 عامل بالفيروس، فعزلت 1500 من العاملين بالمصنع لمدة 14 يومًا كإجراء وقائي. وفي أحد مصانع شركة «نستله مصر»، بمدينة السادس من أكتوبر، انتظرت الشركة أسبوعين بعد وفاة عامل بالكورونا وظهور حالات أخرى لكي تعلق أعمالها. وقالت الشركة إنها تتخذ كل الإجراءات بالتنسيق مع وزارة الصحة والطب الوقائي لتنفيذ عمليات التعقيم والتطهير بالمصنع، على أن يُستأنف الإنتاج في أقرب وقت ممكن.

ليس لدينا أي معرفة بالسبب الذي حال دون تدخل الدولة لإغلاق هذه المصانع فور معرفتها بالإصابات، وبالطبع لا نعرف كذلك أي إجراءات اتخذتها الحكومة حيال المنتجات الغذائية التي تخرج من هذه المصانع إلى المستهلكين، لضمان ألا تكون ناقلة للعدوى.

وفي المنوفية قرر المحافظ إغلاق مصنع «إيجبيت فودز» للصناعات الغذائية بالمنطقة الصناعية بقويسنا لمدة 48 ساعة، للتطهير والتعقيم بعد ظهور إصابات بالفيروس بين العمال، وقرر منح 101 عامل مخالط للحالات الإيجابية إجازة بأجر كامل لمدة 14 يوم. كذلك أعلنت شركة «كارفور» إغلاق فرعها بمول «داون تاون» في التجمع الخامس، بعد إصابة أحد العاملين بالفيروس. انتقل العامل المصاب إلى الحجر ووُضع فريق العمل المخالط له بالعزل المنزلي. وكانت الشركة نفسها قد أعلنت قبل ذلك إصابة أحد موظفيها بفرع «داندي مول»، واكتفت عندئذ بتعقيم الفرع دون إغلاقه بحسب بيانها.
وفي الحالة الأخيرة التي أوردتها الصحف على لسان الإدارات، أعلنت دار المعارف وفاة عامل بـها بعد إصابته بـكورونا، وقالت إن العامل توقف عن المجيء إلى المؤسسة منذ رصد ارتفاع حرارته عند الباب لدى قدومه إلى العمل يوم 20 أبريل. أرسلت المؤسسة خطابات للعاملين للتأكيد على ضرورة عزل المخالطين للعامل المتوفي منزليًا لمدة 14 يومًا، على أن يتوجهوا إلى مستشفيات الحميات إن ظهرت عليهم أي أعراض، وأعلن رئيس مجلس الإدارة أن المؤسسة تُطهَّر كل ثلاثة أيام منذ بدء الأزمة، وشددت المؤسسة على إجراءات الوقاية بعد الوفاة.

في حالات أخرى، لا تأتي الأخبار من الحكومة أو مجالس إدارة الشركات، وإنما من العمال أنفسهم الذين يصابون أو يشهدون على إصابة زملائهم. ويمثل مصنع «فيرتكال» في الإسماعيلية واحدة من هذه الحالات. وقعت إحدى العاملات في المصنع فحملتها زميلاتها للإسعاف معتقدات أنها تعاني من غيبوبة سكر، وبعدها بعشرة أيام وجدوا موظفين من وزارة الصحة يأتون لسؤالهم عن المخالطين لها، بعد أن أظهرت التحاليل إصابتها بفيروس كورونا.

تقول إحدى العاملات عن الواقعة: «بعد ما اللجنة قالت كلنا لازم نتعزل أسبوعين، أخدهم المدير مكتبه، وبعدين مشوا من غير ما يطمنونا، وبعد كدا صاحب المصنع منح العمال اللي كانوا معاها في نفس خط الإنتاج بس إجازة، وكلنا نشتغل عادي، فعملنا إضراب ووقفنا المكن، لكن في الميكروفون قال لنا اللي خايف ياخد أجازة على حسابه ومايجيش واللي هيتكلم هيترفد». ثم تكمل قائلة: «إحنا كلنا كنا بنخالطها، بعيد عن الشغل نفسه، كنا بناكل سوا وبنستخدم نفس الحمام، والمصلية، كل يوم لحد يوم نقلها بالإسعاف الصبح، أكيد كلنا معرضين للإصابة، إذا مكناش أُصبنا بالفعل».

هكذا يجد العمال والعاملات أنفسهم/هن ما بين الموت بالفيروس أو الموت جوعًا، ولم تُتخذ في هذه الحالة أي إجراءات وقائية سوي رش المصنع بالكلور يوميًا بحسب صاحب المصنع، وتوزيع كمامة قماش واحدة لكل عامل. وعن استمرار العمل في المصنع على الرغم من ظهور إصابة بكورونا قال صاحب المصنع: «إحنا قطاع خاص، يعني أنتج يبقى في دخل أدفع مرتبات، لما هقفل لهم المصنع وياخدوا إجازة، هدفعلهم مرتب منين؟ وبعدين الحكومة قالت إن لازم عجلة الانتاج تدور عشان الاقتصاد مايقعش، وده دورنا كأصحاب مصانع فيها عدد كبير من العمال».

العمال بين الفصل والامتناع عن دفع الأجور أو انتقاصها

نشرت الصحافة في الفترة الماضية كذلك أخبارًا متفرقة عن انتقاص أجور العاملين، جاء فيها مثلًا أن النيل للطيران تعرض على البنوك والصندوق السيادي المساهمة في ملكيتها لدعم مركزها المالي وحمايتها من الإفلاس، في ظل استمرار توقف حركة الطيران حاليًا بسبب الفيروس، وبحثت شركات طيران خاصة مع بنكي مصر واﻷهلي دعم القطاع بقروض حسنة للحفاظ على العمال، بعدما بدأ بعضها فعليًا في تسريحهم، أو خفض أجورهم بنسب تتراوح ما بين 25% و50%. ورفضت تلك الشركات الاقتراض بفائدة 8% لسداد اﻷجور، ضمن مبادرة البنك المركزي الخاصة لدعم قطاعي السياحة والطيران بقروض تبلغ 50 مليار جنيه.

وفي قطاع التعليم، ذكرت إحدى الموظفات بمدارس «نيو فيجن» (New Vision) الخاصة بالقاهرة إن المدرسة استلمت أقساط المصاريف كاملة، لكن الإدارة عرضت على المدرسين مع ذلك استكمال العمل من المنزل عبر الإنترنت، مع تخفيض رواتبهم للنصف. وخيرت المدرسة الموظفين الإداريين بين العمل بنصف الراتب أو البقاء في المنزل واعتبارها إجازة مفتوحة بدون أجر.

قررت مدارس أخرى الإبقاء على المدرسين بشروط معينة، فمدرسة «فالي» الخاصة بالجيزة مثلًا بدأت بتسليم المدرسين مرتباتهم كاملة، واستثنت منهم المدرسين الذين لم يسددوا أقساط مصاريف أولادهم في نفس المدرسة، ليتبعه قرار بإجبار المدرسين على الحضور للمدرسة يومين في الأسبوع. وبعد رفض بعضهم تعريض حياته للخطر، خصوصًا أن المراجعات مع الأطفال للبحث النهائي، الذي أقرته وزارة التعليم بديلاً عن الامتحان، أوشكت على الانتهاء، هددت الإدارة بقطع رواتبهم في حال رغبة المدرس العمل من المنزل.

أما مدرسة «ستانفورد» بالعبور فأنهت مراجعتها «أونلاين» مع الطلاب في نهاية مارس، ثم أعطت للمدرسين والمشرفين والسائقين إجازة مفتوحة بدون راتب، حتى العام الدراسي الجديد. وطلبت مدرسة «الفؤاد الدولية» بمحافظة الشرقية من أولياء الأمور سرعة سداد باقي مصاريف المدرسة والتي تبلغ 30 ألف جنيه من أصل 135 ألف، وعندما طلبت إحدى أولياء الأمور التي فضلت عدم ذكر اسمها مهلة شهر لسداد المبلغ، بسبب كونها محتجزة في المنزل مع حظر تجول يمتد طوال اليوم في بلد عربي، بالإضافة إلى توقف راتبها هي وزوجها، رفضت الإدارة رفضًا تامًا إعطاء أي مهلة. ومنحت نفس المدرسة مدرسي الأنشطة والتربية الرياضية إجازة مفتوحة بدون مرتب بدعوى عدم الحاجة إليهم، بحسب عدد من أولياء الأمور بتلك المدرسة.

تخرج علينا يوميًا الأخبار عن مصانع وشركات وأماكن عمل ينتشر فيها الفيروس، فتعلن الإدارة عن بعض هذه الحالات ثم تبدأ بسرد الإجراءات التي تتخذها من أجل التطهير ووهب الإجازات للمخالطين، لكن في حالات كثيرة، خصوصًا عندما يصل إلينا صوت العمال أنفسهم، نجد حالات إصابة أو وفاة لا يُتخذ بشأنها أي إجراء، ويُطالب العمال بالاختيار بين الاستمرار في العمل مخاطرين بحياتهم أو ترك العمل والموت جوعًا.

إلى أين يجب أن يذهب إذن هؤلاء العمال المجبرين على العمل في بيئة ينتشر فيها المرض، ولمن يتوجهون بالشكوى؟ حتى الذين يحصلون على إجازات فإنهم يعودون للعيش بين أسرهم في منازل ضيقة عادة تهدد باقي أفراد أسرهم، ليتضاعف انتشار الفيروس في المصانع والبيوت.

من أجل وقف انتشار المرض يجب اتخاذ إجراءات بالإغلاق الفوري المؤقت في المصانع والشركات التي تظهر فيها أي حالات إيجابية، ويستمر هذا الإغلاق حتى التطهير والتحليل للمخالطين وإكمالهم فترة الحجر الصحي، خصوصًا وأن حياة العمال في المصانع متداخلة، فهم يعملون معًا ويأكلون معا ويختلطون بشتى الطرق. ويجب على وزارة القوى العاملة أن تفتح مكاتبها لشكاوى العمال، سواء تلك المتعلقة ببيئة عملهم أو بفصلهم وانتقاص أجورهم.

وللحد من تعسف أصحاب الأعمال فلا بد من تغليظ العقوبة على كل من يلجأ لفصل العمال أو انتقاص أجورهم في الأزمة الحالية، فلا يمكن أن يتحمل العمال وحدهم كلفة وباءٍ عالمي، فيما يتهرب أصحاب الأعمال كالعادة من أي دور أو مسؤولية.

عداد الديون