المقدمة
أصبحت ريادة الأعمال من الكلمات الطنانة المنتشرة الأكثر شيوعاً في يومنا هذا. حيث ازدهرت تدريجياً منذ القرن الماضي، وخاصة مع صعود السياسات النيوليبرالية. وفي السنوات العشر الأخيرة، حققت ارتفاعًا مذهلًا. فأصبحت من أكثر المصطلحات شيوعاً، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، لكن بين الأفراد من جميع الأعمار ولا سيما الشباب. يريد الكل أن يصبح رائد أعمال، رئيس نفسه، يبتكر شيئاً جديداً، يستغل الموارد بشكل مختلف. وفي أغلب الأوقات، باستخدام تطبيقات تُبهر الشباب بوعود حول ما يمكن تحقيقه. ويزداد يومًا بعد يوم عدد من يرون في ريادة الأعمال مسارًا وظيفيًا يرغبون في السعي إليه. لكن أي شكل من ريادة الأعمال تعنيه الحكومات المختلفة عندما تتحدث عن تعزيز ونشر ثقافة ريادة الأعمال وتوفير الموارد بكل أشكالها لمساعدتها على الازدهار؟ أي نوع من ريادة الأعمال تدعم؟
رغم كل هذا الاهتمام بريادة الأعمال، إلا إننا لا نستطيع إيجاد صيغة محددة وشاملة لماهيتها. وقد شهد المفهوم تغييرًا على مدار السنين. فما كان يعنيه منذ مائة عام ليس بالضروري أن يعنيه الآن. وربما بدأت التغيرات الأسرع وتيرة منذ خمسين سنة مع صعود السياسات النيوليبرالية والخطاب المرافق لها. والتغيير الأكثر أهمية في رأينا هو التوسع في المفهوم من اقتصادي بالأصل ليتخطى ويشمل السياسي والاجتماعي، ويتخلل كل المناحي التي يمكنه الوصول إليها.
نجد سمات مشتركة في التعريفات المختلفة، ولكنها كثيرة جداً بحيث لا نستطيع حصرها وتجميعها لتكوين تعريفًا واحدًا محددًا. وهناك سمتان مشتركتان في التعريفات المختلفة. تتمثلان في التعدد والعمومية. الأمر الذي يصعب حصر التعريفات المختلفة وإيجاد صيغة محددة لريادة الأعمال. وبالطبع لم يأت هذا بمحض الصدفة. حيث يتيح اتساع مظلة التعريف الفرصة لتشمل ريادة الأعمال ما يرغبه كل شخص حسب مصلحته. فنجدها في القطاع الحكومي، وكل منحى للحياة حتى الشخصي منها. ويصبح بكل مجال طاقات ريادية، تنتهج لزيادة الإنتاجية وهجر الهياكل التقليدية، بدعوى أنها أصبحت عتيقة ولا تواكب العصر. كل فرد يمكن أن يكون رائد أعمال بالمجهود والابتكار. ويمكن لأي شخص ابتكار طريقة جديدة لتوفير خدمة ما، أو استغلال موارد غير مستغلة. ويحقق ربحًا بغض النظر عن العواقب، أو من ستقع الآثار الناتجة عن الابتكار على عاتقه. وهكذا، تصبح ريادة الأعمال منهجاً في الوصول للحلول ومواجهة العقبات، سواء على المستوى العام أو الخاص.
وترسخ ريادة الأعمال النظر إلى الكوارث الشخصية باعتبارها أخطاءً يسأل عنها الفرد، أو فشلًا شخصيًا وعزوفًا عن المخاطرة، أو نتيجة للقرارات الخاطئة، استمرارًا للخطاب النيوليبرالي الذي يروج للفردانية والمسؤولية الشخصية. وبالتالي، يعتبر الوضع الاقتصادي مسؤولية فردية يتحملها الأشخاص بالكامل، ولا دخل للعوامل الخارجية، سواء الوضع الطبقي أو الاجتماعي أو السياسي. وتضيف ريادة الأعمال إلى هذا الخطاب، أن الفرد قادر على تغيير وضعه الاقتصادي، وتحقيق الثراء عن طريق “التفكير خارج الصندوق،” أو “الاستثمار في نفسه،” وسيكافئه السوق حتماً على الخضوع لقوانينه ذات الكفاءة العالية.
وتتيح لنا نظرية رأس المال البشري فهمًا أعمق لريادة الأعمال، وفكرة “الاستثمار في النفس” الشائعة. ويمثل “رأس المال البشري” “رصيد الشخص أو مخزونه من المعرفة، وخصائصه الشخصية، سواء الفطرية أو المكتسبة، التي تساهم في زيادة قدرته على المنافسة والحصول على فرص أفضل. ويزداد رأس المال البشري بزيادة رصيد المعرفة والمهارات، التي تأتي بعدة طرق أهمها التعليم والتدريب”. وهناك عدة انتقادات لهذه النظرية، حيث لا تأخذ في الاعتبار أيًا من العوامل الخارجية التي قد تؤثر على رأس المال البشري وقدرة الفرد على الاستثمار في نفسه. فينحصر التعليم في أنه قرار ومسؤولية شخصية. وليس نتيجة بنية اجتماعية واقتصادية، رغم أن الوضع الطبقي للأسرة يشكل العامل الأقوى في التأثير على شكل وجودة التعليم الذي يمكن توفيره لأبنائها.
وتعتمد ريادة الأعمال في ترويج خطابها على فكرة امتلاك الفرد قدرة على الاختيار، ومسؤوليته عن تطوير ذاته. ويرجع نجاحه إلى قدرته الشخصية وانضباطه الذاتي. وأنه شخص مجازف يتبع شغفه. ويتم حصر النجاح في اقتباسات جاذبة وواعدة بالكثير، وخاصة بالنسبة للشباب. وإذا كان النجاح لا يلزمه سوى ذلك فقط، فالكل قادر عليه بالتأكيد. وتنحي أي عوامل ومحددات أخرى، ويُنسى الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الخاص. وهذا ما تنادي به النيوليبرالية، حيث يعد كل نجاح وفشل مسؤولية شخصية بالأساس.
ونهتم في هذه الورقة بعرض التطور التاريخي لريادة الأعمال في إطار زمني يبدأ من الأقدم، و بتسليط الضوء على التطورات المصاحبة لصعود النيوليبرالية، حيث نرى ارتباطًا وثيقًا لريادة الأعمال في شكلها الحديث مع النيوليبرالية، وأنهما وجهان لعملة واحدة، اعتمد كل منهما على الآخر في تأسيس نفسه. ويركز الجزء الثاني من الورقة على عرض الأزمة المالية العالمية التي حدثت في 2008، وعلى علاقة التدمير الخلاق وريادة الأعمال بالأزمة، وعلاقة ذلك بالازدهار الواسع لريادة الأعمال في السنوات العشر الأخيرة بالأخص.
ولقراءة التقرير