باتريك بيلسر
باحث اقتصادي أول في منظمة العمل الدولية
ومؤلف مشارك لتقرير الأجور العالمية.
في السنوات الأخيرة، انخفضت حصة تعويضات العمل في الناتج المحلي الإجمالي بعديد من البلدان حول العالم[1]. وفي الوقت نفسه، وصل التفاوت في الأجور إلى مستويات يعتبرها كثيرون غير مستدامة اجتماعيًا واقتصاديًا. ولا يؤدي عدم المساواة إلى تآكل التماسك الاجتماعي فحسب، بل يقلل أيضًا فرص الحراك الاجتماعي، ويضر باستهلاك الفئات ذات الدخل المنخفض، ويضعف مكانة الطبقة الوسطى، ويخلق مجتمعات تعيش فيها النخب في عالم منفصل.
وهكذا أصبح الحد من عدم المساواة أكثر أهمية بالنسبة لواضعي السياسات في كثير من بلدان العالم. وينعكس ذلك، ليس فقط على قائمة أولويات منظمة العمل الدولية المتعلقة بالعمل اللائق، وإنما أيضًا في خطة التنمية المستدامة لعام 2030، التي تدعو إلى توفير العمل اللائق للجميع. وينعكس أيضًا فى سياسات المالية العامة والأجور والحماية الاجتماعية من أجل تحقيق قدر أكبر من المساواة بشكل تدريجي.
ويركز تقرير الأجور العالمي الأخير، الصادر عن منظمة العمل الدولية 2017/2016، على عدم المساواة في الأجور، معتبرًا إياها نقطة البداية. إذ يأتي التفاوت العام في الأجور جامعًا فروق متوسط الأجور بين الشركات، مع عدم المساواة في الأجور داخل الشركات نفسها.
ويختلف المنظور المؤسسي عن التركيز التقليدي على المهارات كمصدر رئيسي لعدم المساواة، وقد وثقت دراسات عديدة كيف ساهمت التكنولوجيا والعولمة والضغوط من الأسواق المالية وتحرير سوق العمل وضعف قوة النقابات العمالية التفاوضية في زيادة عدم المساواة في الأجور بين العمال ذوي المهارات العالية، والعاملين ذوي المستويات التعليمية المنخفضة. بينما لعبت الخصائص الفردية وحدها (بما في ذلك العمر والتحصيل العلمي وسنوات الخدمة) دورًا ضعيفًا نسبيًا في تفسير التباين في أجور العمال. ويُظهر نموذج رأس المال البشري البسيط المستخدم في تقرير الأجور العالمي، أن هناك أحيانًا اختلافات هائلة بين الأجور الفعلية للأفراد، والأجور المتوقعة نتيجة لهذه الخصائص الفردية. وحسب موقع توزيع الأجور، كان التناقض كبيرًا بصفة عامة، ولكنه أوضح في قمة سلم الأجور بشكل خاص، أى فى الشريحة الأعلى من الرواتب، حيث يتقاضى العمال على “مبالغ زائدة” للغاية مقابل خصائصهم، بينما يحصل الذين في أسفل السلم على “مبالغ أقل مما ينبغي” بشكل صارخ مقابل خصائصهم.
عدم المساواة بين الشركات مسألة مهمة
أكدت الأدبيات الحديثة على أهمية الفروق في متوسط الأجور بين الشركات كمصدر لعدم المساواة في الأجور. وعلى سبيل المثال، وجدت أبحاث منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن الشركات الأكثر إنتاجية تأتى فى المقدمة. وتحدث هذه الفجوة في الإنتاجية فجوة في الأجور: “عندما تعني الإنتاجية الأعلى أجورًا أعلى، يمكن أن تؤدى فجوة الإنتاجية المتزايدة بين الشركات إلى فجوات في الأجور”. وفي الواقع، هذا ما تعكسه البيانات تمامًا،”(Berlingieri و Blanchenay و Crisculolo (2017).
وأوضح تقرير الأجور العالمي الصادر عن منظمة العمل الدولية وجود بعض التناظر في بلدان عديدة بين مستوى عدم مساواة الأجور المنخفض بين الأفراد، وانخفاض مستوى عدم مساواة الأجور بين الشركات، (كما هو الحال في النرويج، حيث يوجد مستوى منخفض من عدم المساواة فى الأجور، كما يقع متوسط أجور 90٪ من الشركات في المنتصف). أو هناك تناظر بين مستويات عدم المساواة المرتفعة بين الأفراد والشركات أيضًا(كما هو الحال في المملكة المتحدة، حيث يوجد مستوى أعلى من عدم المساواة في الأجور، ونسبة أعلى من المؤسسات التي بها متوسط أجور منخفض جدًا أو مرتفع جدًا). وتعاني البلدان النامية من مستوى مرتفع من عدم المساواة في الأجور، ومستوى أعلى من عدم المساواة بين الشركات، مقارنة بالبلدان المتقدمة.
لا يجب إغفال عدم المساواة في الأجور داخل المؤسسات
لكن عدم المساواة بين الشركات ليس سوى جزءًا من القصة، باستخدام مسح الهيكل الأوروبي للأرباح، وجد تقرير الأجور العالمي أن في متوسط أوروبا، يمثل عدم مساواة الأجور داخل المؤسسات نسبة كبيرة تبلغ 42٪ من إجمالي التباين في الأجور، مع وجود اختلافات ملحوظة بين الدول (انظر الشكل 1).
شكل(1)
تحليل عدم المساواة في الأجور بين المؤسسات وداخلها في أوروبا [2]
ملحوظة: تظهر التقديرات تفكك التباين الكلي، باستثناء القيم المتبقية. وتوفر إضافة قيم “بين” و”داخل” لكل بلد بشكل مستقل مقياسًا للتباين الكلي (باستثناء القيم المتبقية). على سبيل المثال، في حالة بلجيكا، يبلغ التباين الكلي (على المقياس اللوغاريتمي) 0.147 حيث يكون المكونان “بين” “داخل” 0.082 و 0.068 على التوالي.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، أظهرت دراسة حديثة (Song et al,2015) أن عدم المساواة في الأجور داخل المؤسسات يمثل أكثر من نصف إجمالي عدم المساواة في الأجور. وبعبارة أخرى، إذا كان هناك تساوٍ في الأجور داخل المؤسسات – أى إذا حصل جميع العمال على متوسط أجر مؤسستهم بالضبط – سينخفض عدم المساواة في الأجور في الولايات المتحدة بأكثر من النصف.
وبطبيعة الحال، يعتبر الحد من عدم المساواة في الأجور داخل المؤسسات إلى الصفر أمر غير واقعي ولا مرغوب فيه، فهناك بعض العاملين لديهم مسؤوليات ومهارات أكثر من غيرهم. وبالتالي، تجب مكافأتهم بشكل مناسب. ولكن هل وصل عدم المساواة داخل بعض المؤسسات إلى مدى بعيدًا جدًا؟
عند مقارنة أجور الأفراد بمتوسط أجر المؤسسات التي يعملون فيها، توصل تقرير الأجور إلى تقاضى معظم العاملين في المؤسسات الأوروبية المتوسطة والكبيرة (80٪ تقريبًا) أجورًا أقل من متوسط أجر المؤسسة التي يعملون فيها. وعلى مستوى آخر، وفي مجال العقارات والخدمات المالية، يكسب 99٪ من العاملين أقل من المتوسط. وبالتالي، لا يعد المتوسط معيارًا كفئًا لما يكسبه العمال في تلك المؤسسات حقًا.
بالتدقيق أكثر داخل المؤسسات ذات متوسط الأجور الأعلى، نجد أن عدم المساواة فى الأجور يصل إلى مستويات هائلة في بعض الأحيان. ويمكن ملاحظة ذلك في (الشكل 2)، الذي يصنف جميع المؤسسات وفقًا لمتوسط أجورها، ويظهر أيضًا أعلى وأدنى الأجور في هذه المجموعات من الشركات. يبدو عدم مساواة الأجور في الشركات الكبرى هائلاً.
متوسط الأجور وعدم المساواة في الأجور في أوروبا (22 دولة)[3]
– – – متوسط الأجور الأعلى للأفراد
– – – متوسط الأجور الأقل للأفراد
ـــــــــــــــــــــــ متوسط الأجور باليورو على مستوى الشركات
اللافت للنظر أن ما ينطبق على عدم المساواة العام في الأجور ينطبق أيضًا على فجوة الأجور بين الجنسين، ففي حين بلغت فجوة الأجور بين الجنسين في الساعة في أوروبا حوالي 20٪، كانت في 1٪ من الشركات ذات متوسط الأجور الأعلى في أوروبا لا تقل عن 48٪.
ما العمل الممكن للحد من عدم المساواة في الأجور؟
بالإضافة إلى تحسين المهارات والتعليم لمن هم في أسفل هرم العمل، ما الذي يمكن فعله للحد من عدم المساواة في الأجور؟
بالنظر إلى حجم عدم المساواة في الأجور داخل المؤسسات الموثقة هنا، فمن الواضح أن التنظيم الذاتي للمؤسسات يمكن أن يلعب دورًا في الحفاظ على عدم المساواة في الأجور ضمن الحدود المقبولة اجتماعياً. ويحدد العديد من الرؤساء التنفيذيين رواتبهم، وغالبًا ما يكون المساهمون غير قادرين على ضمان مكافأة التنفيذيين بما يتماشى مع القيم الاجتماعية أو حتى أداء الشركة. وركزت مبادرات تنظيم الأجور المرتفعة على شفافية المكافآت، وعلى رأي المساهمين في الأجور.
تلعب تشريعات الحد الأدنى للأجور والمفاوضة الجماعية دورًا مركزيًا أيضًا للحد من عدم المساواة بين المؤسسات وداخلها، كما أوضحت تجارب دول أوروبية عديدة، ودراسة الحالة التي أجراها ألفاريز وآخرون حول البرازيل (2016). لكن يكون للاختلافات في طريقة تنظيم المفاوضة الجماعية تأثيرات مختلفة. فعندما تكون المفاوضة الجماعية على مستوى الشركة أو مكان العمل، يقتصر التأثير على عدم مساواة الأجور داخل الشركات، وعندما تتم المفاوضة الجماعية على المستوى الوطني أو الصناعي تتم تغطية نسبة أكبر من العمال. ويرجح انخفاض عدم المساواة داخل المؤسسات وفيما بينها في هذه الحالة. ويمكن تعزيز الآثار مع توسيع الحكومات لنطاق الاتفاقات الجماعية، لتشمل جميع العاملين في قطاع أو بلد معين.
وكما علمنا، تمثل الفروق في متوسط الأجور بين المؤسسات محددًا مهمًا لعدم المساواة العام في الأجور. وفي الوقت نفسه، قد يسمح تعزيز نمو الإنتاجية على نطاق واسع بين المؤسسات بارتفاع متوسط الأجور، والحد من عدم المساواة فيها. وتشير أبحاث منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى إمكانية تشجيع “الشركات المتعثرة”، حتى تشبه في الأداء إنتاجية “الشركات المتقدمة”، من خلال تبني التقنيات الجديدة وأفضل الممارسات. ووفقًا لـدراسة كريسولو (Criscuolo 2015)، يمكن تفهم “بعض الشركات هذه التقنيات الجديدة” في حين “البعض الآخر لا يفهمها”.
وللأسف، قد لا تكون الأشياء بهذه البساطة. يأتي أحد تحديات السياسات الرئيسية من التفتت، أو ما يسميه ديفيد ويل “أماكن العمل المتصدعة” (2014: 4)، حيث التحول في الكيفية التي تنظيم بها منظمات الأعمال لمكان العمل، بالاستعانة بمصادر أخرى للتوظيف، مثل مقاولو الاستخدام من الباطن، والتركيز على الأنشطة الأساسية وترحيل عديد من الوظائف منخفضة الأجر مثل عمال النظافة وحراس الأمن والسائقون وموظفو مكتب الاستقبال وما إلى ذلك، كل هذا لفصل العاملين بعضهم عن بعض . في مثل هذه الحالات، قد يكون مجال تحسين الإنتاجية محدودًا في الجزء ذي القيمة المضافة المنخفضة، وكما يشير ويل:
“يقوض تنظيم مكان العمل الجديد أيضًا الآليات التي أدت في وقت ما إلى مشاركة القوى العاملة لجزء من القيمة التي حققها أرباب العمل في الشركات الكبرى. ومن خلال التخلي عن التوظيف لصالح أطراف أخرى، حولت الشركات الرائدة مسألة تحديد الأجور إلى مجرد قرار تعاقد، ونتيجة لذلك بقيت الأجور الحقيقية لوظائف عديدة كانت تتم سابقًا بالداخل في حالة ركود.” (Weil, 2014: 4)
وبالتالي، قد يتعين أن يشمل الحل ممارسات الشراء المسؤولة للشركات الرائدة، وكذلك المبادرات لضمان إدراج جميع أجزاء سلاسل التوريد في اتفاقيات المفاوضة الجماعية.
المراجع
Alvarez, J.; Engbom, N.; Benguria, F.; and Moser, C. (2017) Firms and the Decline in Earnings Inequality in Brazil, Columbia Business School Research Paper No 17-47.
Berlingieri, G.; Blanchenay, P.; and Crisculolo, C. (2017) ‘A study of 16 countries shows that the most productive firms (and their employees) are pulling away from everyone else’, Harvard Business Review, August 24.
Criscuolo, C. (2015) ‘Productivity is soaring at top firms and sluggish everywhere else’, Harvard Business Review, August 24.
ILO (2017) Global wage report 2016/17: Wage Inequality in the Workplace, ILO, Geneva.
Song, J.; Price, D.; Guvenen, F.; Bloom, N.; and von Wachter, T. (2015) Firming up inequality, National Bureau of Economic Research Working Paper No. 21199, Cambridge (USA).
Weil, D. (2014) The Fissured Workplace: why work became so bad for so many and what can be done to improve it, Harvard University Press, Cambridge USA.
[1] http://column.global-labour-university.org/2017/10/a-perspective-on-wage-inequality-from.html#more
[2] المصدر: تقديرات منظمة العمل الدولية بناءً على قاعدة بيانات SES.
[3] المصدر: تقرير الأجور العالمي لمنظمة العمل الدولية (تقديرات منظمة العمل الدولية على أساس المتوسط المرجح باستخدام 22 اقتصادًا من يوروستات SES). البلدان هي بلجيكا وبلغاريا وقبرص وجمهورية التشيك واستونيا وفنلندا وفرنسا واليونان والمجر وإيطاليا ولاتفيا وليتوانيا ولوكسمبورغ وهولندا والنرويج وبولندا والبرتغال ورومانيا وسلوفاكيا وإسبانيا والسويد والمملكة المتحدة. .